كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأبو عمرو يقف على الياء، والباقون يقفون على النون، وقرأ أبو عمرو: {أهلكتها} بتاء المتكلم المضمومة بعد الكاف من غير ألف، والباقون بنون مفتوحة بعد الكاف، وبعد النون ألف، والمراد بصيغة الجمع، على قراءة الجمهور التعظيم، كما هو واضح، وقرأ ورش والسوسي وبير بإبدال الهمزة ياء والباقون بالهمزة الساكنة.
مسألة:
اعلم: أن {كأين} فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب، وهي قراءة الجمهور كما بينا، وكأين بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب، ولم يقرأ بها من السبعة غير ابن كثير كما بينا، ومعنى {كأين} كمعنى كم الخبرية، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان:
الأولى: أن يجرّ بمن وهي لغة القرآن كقوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} [الحج: 48 ومحمد: 13 والطلاق: 8] وقوله: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ} [آل عمران: 146] الآية: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض} [يوسف: 105] الآية. ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله:
وكائن بالأباطح من صديق ** يراني لو أصيب هو المصابا

الحالة الثانية أن ينصب ومنه قوله:
وكائن لنا فضلًا عليكم ومنة ** قديمًا ولا تدرون ما من منعم

وقول الآخر:
اطرد اليأس بالرجاء فكائن ** آلما حم يسره بعد عسر

قال في الخلاصة:
ككم كأين وكذا وينتصب ** تمييز ذين أو به صل من تصب

أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا ابن مالك، وابن قتيبة، وابن عصفور، واستدل له ابن مالك بما روى عن أبي بن كعب أنه قال لابن مسعود: {كأين} تقرأ سورة الأحزاب آية فقال: ثلاثًا وسبعين. اهـ.
واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه، وأي المنونة، قال بعضهم: ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور، لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية، ولهذا رسم في المصحف نونًا وقراءة أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل، هو حذفه في الوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي أن كأين بسيطة، وأنها كلمة وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو: كم. إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة، ومن الدليل على أنها بسيطة: إثبات نونها في الخط لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل. واختار أبو حيان أنها غير مركبة، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان، لأن إحداهما قرأ بها ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور. واللغة الثالثة فيها: كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة، الخامسة: كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة. اهـ. ولقد صدق أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة. والله تعالى أعلم.
واعلم: أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة، والقصر المشيد معروفان، أنهما بحضرموت، وأن القصر مشرف على تلة جبل لا يرتقي إليه بحال، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئًا سقط فيها إلا أخرجته، وما يذكرونه أيضًا من أن البئر هي: الرس، وأنها كانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له: حضور، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح، فسمي المكان حضرموت، لأن صالحًا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلًا يقال له العلس بن جلاس بن سويد أو جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملًا عليهم، وجعلوا وزيره سنجاريب بن سوادة، فأقاموا دهرًا، وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدنية كلها وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم، وحياض للبقر، ولم يكن لهم ماء غيرها، وآل لهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير، وأن الشيطان دخل في جثته، وزعم لهم أنه هو الملك، وأنه لم يمت ولَكِنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجابًا، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبيًّا اسمه: حنظلة بن صفوان يوحي إليه في النوم دون اليقظة، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات، ونهاهم عن الشرك باله ووعظهم ونصح لهم، وحذرهم عقاب ربهم، فقتلوا نبيهم المذكور في السوق، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله، فأصبحوا والبئر غار ماؤها، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية كله لا معول عليه، لأنه من جنس الإسرائيليات، وظاهر القران يدل على خلافه، لأن قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} [الحج: 48 ومحمد: 13 والطلاق: 8] معناه. الإخبار بأن عددًا كبيرًا من القرى أهلكهم الله بظلمهم، وأن كثيرًا من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها، وأن كثيرًا من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم، لأن مميز كأين، وإن كان لفظه مفردًا فمعناه يشمل عددًا كثيرًا كما هو معلوم في محله.
وقال أبو حيان في البحر المحيط وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري قال: رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها: عكا فكيف يكون بحضرموت، ومعلوم أن ديار قوم صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من المدينة إلى الشام، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مر بها في طريقه إلى تبوك في غزوة تبوك. ومن المستبعد أن يقطع صالح، ومن آمن من قومه هذه المسافة البعيدة من أرض الحجر إلى حضرموت من غير داع يدعوه ويضطره إلى ذلك، كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}.
بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن كفار مكة الذين كذبوا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ينبغي لهم أن يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، لأنهم إذا سافروا مروا بأماكن قوم صالح، وأماكن قوم لوط، وأماكن قوم هود، فوجدوا بلادهم خالية وآثارهم منطمسة لم يبق منهم داع ولا مجيب، لتكذيبهم رسلهم، وكفرهم بربهم، فيدركون بعقولهم: أن تكذيبهم نبيهم لا يؤمن أن يسبب لهم من سخط الله مثل ما حل بأولئك الذين مروا بمساكنهم خالية، قد عم أهلها الهلاك، وتكون لهم آذان يسمعون بها ما قص الله في كتابه على نبيه من أخبار تلك الأمم، وما أصابها من الإهلاك المستأصل والتدمير، فيحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} [محمد: 10] ثم بين تهديده لكفار مكة بما فعل بالأمم الماضية في قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] وكقوله في قوم لوط: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافت: 137- 138] وكقوله فيهم: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [الحجر: 76] الآية، وكقوله في قوم لوط وقوم شعيب: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} [الحجر: 78] {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 79] لأن معنى الآيتين: أن ديارهم على ظهر الطريق الذي يمرون فيه المعبر عنه بالسبيل والإمام، والآيات بمثل هذا كثيرة. وقد قدمنا منها جملًا كافية في سورة المائدة وغيرها.
والآية تدل على أن محل العقل: في القلب، ومحل السمع، في الأذن، فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، وكذلك قول من زعم أن العقل لا مركز له أصلًا في الإنسا، لأنه زماني فقط لا مكاني فهو في غاية السقوط والبطلان كما ترى.
قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولَكِن تعمى القلوب التي فِي الصدور}.
قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى} [الإسراء: 72] الآية. مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النَّبي صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغيانًا وعنادًا.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن كقوله تعالى: {وَقالواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] وقوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} [العنكبوت: 54] وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] الآية.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في مواضع متعددة، من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 57] وفي يونس في الكلام على قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] إلى غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} [الحج: 47] الظاهر أن المراد بالوعد هنا: هو ما أوعدهم به من العذاب الذي يستعجلون نزوله.
والمعنى: هو منجز ما وعدهم به من العذاب، إذا جاء الوقت المحدد لذلك كما قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53] وقوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [هود: 8] وقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 51] وبه تعلم أن الوعد يطلق في القرآن على الوعد بالشر.
ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير} [الحج: 72] فإنه قال في هذه الآية في النار: وعدها الله بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد، ولم يقل أوعدها وما ذكر في هذه الآية، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة، وأنه لا يخلف وعده بذلك، جاء مبينًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة ق {قال لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} [ق: 28- 29] الآية والصحيح أن المراد بقوله: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} أن ما أوعد الكفار به من العذاب، لا يبدل لديه، بل هو واقع لا محالة، وقوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] أي وجب وثبت فلا يمكن عدم وقوعه بحال وقوله تعالى: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 14] كما أوضحناه في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى: {قال النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ الله} [الأنعام: 128] الآية. وأوضحنا أنما أوعد به الكفار لا يخلف بحال، كما دلت عليه الآيات المذكورة. أما ما أوعد به عصاة المسلمين، فهو الذي يجوز ألا ينفذه وأن يعفو كما قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] الآية.
وبالتحقيق الذي ذكرنا: تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله، وأما إن كان المتوعد به شرًّا، فإنه وعيد وإيعاد.
قالوا: إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤمًا، وعن الإيعاد كرمًا، وذكروا عن الأصمعي أنه قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاءه عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو، هل يخلف الله الميعاد؟ فقال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤمًا وعن الإيعاد كرمًا، أما سمعت قول الشاعر:
ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ** ولا انثنى عن سطوة المتهدد

فإنّي وإن أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فيه نظر من وجهين:
الأول: هو ما بيناه آنفًا من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار، والعذاب كقوله تعالى: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] وقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به بهم، لأنه مقترن بقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} فتعلقه به هو الظاهر.
الثاني: هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال، لأن ادعاء جواز إخلافه، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرمًا يبطله أمران:
الأول: أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلًا، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم، وهذا لا شك في بطلانه.
الثاني: ما ذكرنا من الآيات الدالة: على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب كقوله: {قال لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} [ق: 28- 29] الآية وقوله تعالى: فيهم {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] وقوله فيهم: {فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 14] ومعنى حق: وجب وثبت، فلا وجه لانتفائه بحال، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع.
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَا تَعُدُّونَ}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده جل وعلا كألف سنة مما يعده خلقه، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة، أشار إليه في سورة السجدة بقوله: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة وذلك في قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] الآية. فآية الحج، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى، وتماثلها في المعنى. وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفًا. وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب. وسنذكره إن شاء الله هنا ملخصًا مختصرًا. ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه.
فقد ذكرنا ما ملخصه: أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلًا من ابن عباس، وسعيد بن المسيب، سئل عن هذه الآيات: فلم يدر ما يقوله فيها، ويقول: لا أدري، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين:
الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج: هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ويوم الألف في سورة السجدة، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ويوم الخمسين ألفًا، هو يوم القيامة.
الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن، وحال الكافر لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9- 10]. اهـ. ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان.